لم يترك الرئيس التركي رجب طيب اردوغان مساحة الا واستغلها من اجل ابراز نفسه كمدافع عن القضايا العربية بشكل عام، وقضية فلسطين والقدس بشكل خاص. وها هو بعد سلسلة مواقف، يتحضر للقمة الطارئة التي دعا اليها بصفته رئيساً لمنظمة التعاون الاسلامي، لبحث ما يحصل في غزة.
في المبدأ، لن تقدّم هذه القمة ولن تؤخر في الاحداث الدامية التي يشهدها هذا القطاع، كما انها لن تزيد حماس الفلسطينيين ولن تخفف من اندفاع الاسرائيليين واكمال جرائمهم واستعمالهم للعنف المفرط، ولعل التاريخ يعيد نفسه في هذا السياق، كان اردوغان دعا في كانون الاول الفائت الى قمة مماثلة وفي ظروف مماثلة ايضاً لبحث القرار الاميركي في حينه نقل السفارة الى القدس، ولم تؤتِ قمة اسطنبول ثمارها، واضيفت الى القمم والمؤتمرات والمواقف الكلاميّة التي لا طائل منها.
ومن المنطقي للكثيرين طرح سؤال عن غاية الرئيس التركي من اتخاذ مثل هذه الخطوة ما دامت غير بنّاءة ولا يمكنها التأثير على مجريات الاحداث، والجواب بسيط في الواقع، ويُختصر بأن اردوغان يرغب في ملء الفراغ الذي تركه العرب في هذا المجال، وان هذه الدعوة اتت ضمن سلسلة مواقف كان اطلقها وبدأ بها لاثبات أحقيّة تركيا في حماية اهل السنّة في المنطقة. هذا المخطط الذي يراوده منذ فترة غير قصيرة، بدأ يشقّ طريقه بوضوح بعد الحرب التي اندلعت في سوريا وما تلاها من تداعيات، حيث كان له دور بارز فيها عبر تدخلات مباشرة وغير مباشرة، وهو نسج تحالفات مع قوى كبيرة واقليمية، وابتعد سياسياً عن قوى اخرى لم تؤمّن له ما اراد. وحتى في المواقف الكلامية، تخطى اردوغان الدول العربية حيث اتخذ قرارات جريئة ضد اسرائيل عبر طرد السفير وما الى ذلك في وقت يتم الحديث في المقابل عن ترحيب عربي بتطبيع العلاقات مع اسرائيل.
ولكن الخلفيّة الطائفية في القرارات التركية الاخيرة بدت ظاهرة، حين تم انتقاد "الحليف" الايراني في سوريا والدور الذي يقوم به والذي يؤثر سلباً على الوضع في هذا البلد(1). هذا الامر القى بظلاله على المقاربة التي تتعاطى فيها تركيا مع الاوضاع في المنطقة، والدور الذي تطمح اليه من خلال شد العصب السنّي، في ظل "الفورة" السعودية بعد الركود الذي شهدته المملكة في الحقبة الاخيرة مع الادارة الاميركية السابقة.
وما يشجّع اردوغان ايضاً على الاستمرار في هذه الخطة، هو الترهل العربي والانشقاق الواسع الذي اخذ طريقه، اضافة الى نظرة العديد من الدول العربية "المنفتحة" على العلاقات مع اسرائيل امعاناً في الابتعاد عن ايران، وابعادها في الوقت نفسه عن المنطقة. ويستند التفكير التركي الى قدرة انقرة على القيام بكل ما يمكن للسعودية القيام به كمظلة للسنّة في المنطقة، ان من خلال علاقاتها او تحالفاتها او قدراتها العسكرية، الا ان العائق الاساسي في هذا المجال، هو وجود حساسية لدى بعض الدول العربية تجاه هذا البلد، بسبب القلق من ان نجاح هذا التوجه من شأنه ان يعيد احياء حلم استعادة الامبراطورية العثمانية مجدداً، ولو ان المعطيات حالياً تختلف بشكل جذري عن تلك التي سادت في الماضي، لكن الصورة تبقى راسخة في اذهان الكثيرين، كما ان التعاطي القاسي للرئيس التركي الحالي مع شريحة من الاتراك (اعتقالات واستعمال القوة...) ومع الاكراد على حد سواء، لا يشجّع على نشر صورة اكثر لطفاً وقادرة على تقريب المسافات مع العالم العربي، اضافة الى مصالح دول الخليج التي تختلف بشكل جذري عن مصالح الدول العربية الاخرى.
تركيا تقوم بمساعيها، ولكن العبرة تبقى في النتائج التي لا تبشّر بأن هذا المسعى سيصل الى النتيجة التي يرغب بها اردوغان.